السحور…دقات الطبل والوجل من – بغلة القبور – / فصل من ذكريات طفل بحي ميملال
آخر تحديث : الثلاثاء 5 أبريل 2022 - 12:48 مساءً

ميدلت بريس – Ali Ouhmad Boudarine
ـــــــــ
نذر الرجل نفسه ليوقظ أهل الحي للسحور في كل ليلة غراء من رمضان ، في القر و الحر ، لا يكاد يخلف موعدا مع الشهر الفضيل . لا ينفك يستعد لعمله الدؤوب والشاق نفسيا وجسديا . هل اختار المهمة عن طيب خاطر أم سعيا وراء لقمة العيش ؟ المهم أن الأقدار وضعت هذا الرجل في خدمة الساكنة الذين يقدرونه ويجلون عمله . لا أحد يؤكد متى بدأ الرجل عمل ( المسحراتي ). يرتدي جلبابا قصيرا يتجاوز الركبة قليلا يشبه الى حد بعيد جلبابا يرتديه أفراد القوات المساعدة ، يشده من الخصر بحزام جلدي عريض وسميك ، يظهر إبزيمه الحديدي لامعا ، حتى لا يمنعه الجلباب من خفة الحركة والهرولة . غالبا ما يعلق في الحزام مصباحا يدويا يستعين به لإنارة دربه عندما يفتقد نور القمر . في هذا الزمان لايزال الحي يغرق في الظلام الدامس لأنه لم يربط بشبكة الكهرباء . يتدلى من كتفيه على صدره طبل صغير مشدود الجلد . وليس اعتباطا أن يختاره صغير الحجم ، فلو كان كبير الحجم لثقل عليه حمله مسافة طويلة . ينقر عليه ضربات متتالية وموزونة بعصا مميزة تكسر صمت الليل البهيم وتبعث الحركة في بيوتات كان اهلها يغطون في نوم عميق ويلفها الظلام والسكون . تكفي هذه الدقات على الطبل أن توقظ النائمون ليستعدوا لإعداد وجبة السحور ولصلاة الفجر بمسجد الحي الوحيد . يتفق كل الذين رأوه أو صادفوه أنه رجل متوسط القامة ، فهو ليس بالطويل ولا بالقصير وليس بالنحيل ولا بالسمين ، رشيقا في مشيته ، يسابق الزمن ليلف أزقة الحي دون استثناء بخطى ثابتة وسريعة ، وقد يتوقف لدقائق معدودات في رأس الزقاق لتتوالى الضربات على الطبل . . ضبط سكان الحي قيامهم للسحور على وقع طبل عمي ( عرباني ) وإن توفرت لبعضهم منبهات بصمت حياة الناس وعرفت ب ( ساعة الفروج ) الذي يزين بألوانه الزاهية وهو يلتقط الحب محاطا بالفراخ ميناء المنبه الأبيض والذي تشع عقاربه وأٍقامه نورا أخضر في الظلمة . تدور عقارب الساعة في دقة متناهية ، لهذا شبه الذي يضبط مواعيده بالساعة السويسرية . ولكن هذه الساعة التي لا يكاد يخلو بيت منها يعتريها الضعف أحيانا فتركن للسكون ..فلابد من ( تحقيقها ) كقطعة حديد لا روح فيها . بعض الذين يشخرون أثناء النوم يعزفون سنفونية عجيبة يضعون منبه ( الفروج ) في صينية مليئة بكؤوس( المردوم) تتراقص مع الاهتزازات المتوالية وتحدث موسيقى توقظ من يغط في نوم عميق.
يسهر الأطفال ليلقوا عليه نظرة يملأها الإعجاب والإستغراب وأحيانا الخوف . بقي الرجل في نظرنا مقداما لا يهاب الظلام ويقهر الخوف من حكايات الأشباح والجن و ( بغلة القبور ) . كغيري من الأطفال حرصت كل الحرص على رؤية الرجل وألححت في ذلك الحاحا على أمي . لم تفوت علي فرصة رؤية الطبال دما ولحما. ومنذ ذلك الحين وشمت صورته ذاكرتي وبقي السحور كطقس من طقوس رمضان رديفا ب عرباني … لم يسلم الرجل المسالم من مقالب بعض الجسورين من شباب ورجال الحي الذين بيتوا النية لترهيبه وتخويفه . ونحن صغار نسمع من أفواه الكبار شيوخا وعجائز عن ( بغلة القبور ) ونتساءل في براءة الطفولة كيف تكون للقبور بغلة ؟ تؤكد الحكاية أن بغلة القبور امرأة مات عنها زوجها ولم تلتزم بالعدة فترتدي اللباس الأبيض وتلزم دارها ، لهذا وعقابا لها مسخها الله . من المعتاد أن تخرج البغلة / المرأة ليلا لتتصيد فرائسها وهي تجر سلاسلا وأغلالا تحدث جلبة في المكان الذي تمر منه وتفضل جوار القبور …. وينشر ظهورها الرعب حسب شهادة من زعموا أنهم قابلوها . تفنن الكثير في وصفها حتى نافست في شهرتها عائشة قنديشة الفاتنة التي تغوي الرجال لتقتلهم . لهذا ظل جيلنا يخشى الظلام . في أزقة تحاذي الحقول خرج على الرجل شاب يرتدي الأبيض ويجر وراءه علب الحليب الفارغة من نوع بورسيما ( الخميسة ) التي صفت بسلك حديدي . تحدث العلب عند احتكاكها بالأرض صفيرا متواصلا . ترك الرجل الدق على الطبل وأطلق ساقيه للريح يطوي الطريق الى بيته طيا فزعا مما رأى وسمع . يحكى أن ( المسحراتي ) ظل ملازما للفراش مدة من وقع الصدمة . عندما يحل عيد الفطر وفي الساعات الأولى من الصباح يفرش الطبال حصيرا أمام منزله . يتوافد السكان نساء ورجالا ويضعون فوق الحصير ما تيسر من حبوب أو قطع نقدية أجرة أو صدقة مقابل عمله طول ليالي رمضان . وهو لا يسأل الناس إلحافا أو زيادة لأنه يقنع بما جادت به نفوسهم .